الجمعة، يوليو ٢٧، ٢٠٠٧

الحرمان

دق على باب غرفتها بقوة .. لا صوت .. لا يسمع أنينها المعتاد .. هدوء غريب يسكن ذلك الغرفة اليوم .. أصر على أن تفتح الباب .. لم ترد عليه .. أحس برعشة سرت في عروقه .. لا بالتأكيد لم يحصل ما وصل فكره إليه .. دق الباب بقوة أكثر .. قرر أن عليه أن يكسره .. وكسره ..

وجدها هناك .. كالملاك .. نائمة؟ .. هزها بقوة مذعوراً .. فتحت عينيها بهدوء .. وبصوت خافت قالت .. سالم؟ ماذا تريد؟؟ دعني أرحل بسلام! .. ما إن سمع هذه الكلمات إلا وسرت تلك الرعشة في عروقه مرة أخرى .. حملها وأسرع بنقلها إلى أقرب مستشفى ..

هناك وقف ينتظر وفرائصه ترتعد .. خاف أن يخسرها! .. نزلت دمعة ساخنة من مقلتيه .. كيف حدث ما حدث .. كيف سمح لنفسه أن يهمل هذه الدرة التي كان منزلهم يزهو بها! ..لام نفسه بشدة .. كان عليه أن يفهمها .. هو من بين الكل كان أقربهم إلى قلبها .. تذكر كل تلك المرات التي ركضت إليه ودموعها على خدها .. تشتكي من هذه ومن ذاك وكان هو من يمسح دمعتها .. لماذا تركها تأن لوحدها اليوم ووقف هو موقف المتفرج؟!!

خرج الطبيب بعد ساعة من الانتظار .. نظر إليه بعين غاضبة .. خجل سالم من النظر في عيني الطبيب .. قال له الطبيب: ما صلة قرابتك بالمريضة هدى؟ .. رد سالم: أختي ..

قال الطبيب: أختك يا أخ سالم مصابة بانخفاض حاد في ضغط الدم .. تعاني أيضا من فقر الدم ! أظنها لم تأكل شيئاً ليومين!!

تفاجأ سالم: ولكننا ندخل الطعام إلى غرفتها .. صدقني يا دكتور هي من ترفض الخروج إلينا!

الطبيب: على العموم .. سنستبقيها هنا ليومين أو ثلاث حتى تستقر حالتها .. ورجاءً إن كان هناك أي موضوع يستثيرها علينا أن نبتعد عنه !

شكر سالم الطبيب .. ودخل على أخته .. نظرت إليه بعيون واهنة .. وكأنها تلومه (أو هكذا أحس)

قالت: سالم .. شكراً على إنقاذي .. لم أرك مذعوراً في حياتك مثلما رأيتك عندما طلبت منك أن تتركني أرحل بسلام .. ورسمت بسمة عذبة على شفتيها ردت روح سالم إليه!

ابتسم سالم .. وأمسك بيديها .. وطلب منها أن تهدأ ويريد منها شرح وافي عما حصل لاحقاً ..

نامت هدى بهدوء .. وأستغرق سالم في تأمل أخته الصغيرة إلى أن نال منه النوم أيضاً !

زقزقت عصافير الصبح كعادتها .. ودغدغت أشعة الشمس وجه هدى .. فتحت عينيها فوجدت أخوها سالم مطرق الرأس .. نائماًً .. هزته بهدوء .. فتح عينيه وكأنه يستغرب أين يكون في هذا المكان .. بعد ثوان من الوجوم والحيرة تذكر أحداث ليلة البارحة.

سالم: كيف حالك اليوم يا أختي الغالية؟

هدى: أشعر بنشاط غريب .. و بنفسية مرتاحة جداً ..

سالم: طبعاً يا أختي الشقية .. لقد أضربت عن الطعام ليومين .. كان ضعفك شيئاً طبيعياًً بعدما فعلت ..

أطرقت هدى رأسها خجلاً ... ونظرت بعدها إلى عيني أخوها كأنها تريد أن ترسل من خلالهما أسفها الشديد ..

أمسك سالم بيدي هدى .. وبكل حنان .. سألها: ماذا حصل لك يا هدى؟؟ لماذ صرنا نفتقد ابتساماتك المشرقة كثيراً مؤخراً ؟؟!!

أدركت هدى أن الوقت قد حان لتفصح عن ما تشعر به لأخوها .. كاتم أسرارها ..

هدى: سأخبرك عن ما يحل بي .. وكن أرجوك عدني ألا تحرمني من سعادتي .. لا تطلب مني أن أقوم بما يصعب علي تحمله ..

رد سالم بتلقائية : طبعاً أعدك يا أختي الغالية ..

هدى : سالم .. أنا أحب ! وقبل أن تقول أي شيء رجاءً اسمعني للنهاية ..

هو شخص كتب الله أن يولد في عائلة مختلفة اجتماعيا .. لن ترضى جميع قوانين مجتمعنا أن نلتقي .. بل ستحاربني إن أنا فكرت ولو للحظة الارتباط به .. ولكني أحبه .. وسأظل أحبه وإن لم نلتقي ..

سالم (بانزعاج بادي على وجهه يحاول أن يخفيه): ما زلت صغيرة على هذا الكلام يا هدى ..

هدى: سالم .. لم أعد أختك الصغيرة .. أصبحت فتاة أكتشف الدنيا أتعلم منها .. سالم .. أعرف ما هو رأيك في ما أقول .. وأعرف أن الجميع بلا استثناء سيطلبون مني أن أنساه .. أعرف هذا وأحاول أن أروض نفسي على حرمانها من أصدق عاطفة وجدت على الأرض .. لذلك أثرت أن أروض نفسي على الحرمان .. حرمت نفسي من الطعام ليومين .. وها أنا ذي .. لم أمت .. إذا علي أن أحرمها من قلبها .. وسأعيش وإن كنت سأكون بلا قلب!

أطرق سالم رأسه .. أحس بتضارب كبير بين عقله وقلبه .. عقله لا يسمح بما تقوله أخته .. هي أخته ولا يريدها أن ترتبط بمن هو أقل منهم اجتماعيا .. هذا شيء غير مسموح بكل الأعراف!!

ولكن قلبه رق لحالها .. هو يعرف كيف يمكن للحب أن يكون مؤلماً .. كيف يسكن روح المحب ويستنفد كل طاقتها!!

هدى: لست مجبورا على إعطاء رأيك الآن . .. فلننس الموضوع .. اسأل الطبيب متى سيتم إخراجي من هنا .. أنا جائعة !!

سالم: قال أنك ستخرجين اليوم .. ولكنه سيأتي للإشراف عليك مرة أخيرة

عادا إلى المنزل .. وكلاهما يبحر في عالم أخر .. هدى تبحر في بحر الحزن الذي سكن قلبها .. وسالم يبحر في بحر من الحيرة، الحيرة بين قلب أخته وقلب مجتمعه!

فكر سالم في الموضوع ملياً، وكلما بحث الموضوع أكثر أدرك صعوبة ما تطلبه هدى، أدرك أن أعراف المجتمع تطبق على هذا الموضوع بطريقة لا تسمح بمتنفس عنه، ماذا سيقول عمها إن علم، و خالها؟، هذا وهو لم يفكر كيف يقنع أبوها !

عاد سالم إلى أخته هدى، مطرقاً رأسه ، قال لها والكلمات تخرج من فمه بأسى ، قال وهو يتأتيء: أختي .. سامحيني .. أريد أ، أكون المعين لك وأن أهدأ من روعك .. أريد أن أقول أن الموضوع حله عندي .. كما أتمنى أن أكون .. ولكن إعذريني .. في هذه المرة فقط .. سأقف مع المجتمع و أرفض ما تطلبينه !

إبتسمت هدى إبتسامه ماكرة .. وقالت : هكذا إذاً !! هديء من روعك .. ولا تحرق أعصابك ..لا أحب ولم أذق للحب طعماً.. سبب ضعفي هو حصولي على علامة متدنية في مادة المجتمع .. ولكني أردت أن أثير الموضوع لأرى ردة فعلك .. وها قد عرفتها أقسم أنني لن أتزوج إلا بمن تقره أنت !!

أمسك سالم بكتاب المجتمع وبدأ بضرب هدى بلطف مظهراً غيظه ولكن الإبتسامة كانت تعلو شفتيه!!

الأحد، يوليو ٠٨، ٢٠٠٧

أمسكت بالشيلة وحاولت أن تلفها على رأسها .. تقدمت بخطوات حذرة ، وقفت أمام المرآة .. تحسستها بيدها وأطلقت ضحكة تخللها انهمار دموع ساخنة على خدها ، دخلت أختها إلى الغرفة بعجلة: ريم هيا .. سنتأخر .. ستدخل العروس ونحن ما زلنا هنا .. ابتسمت ريم: أنا جاهزة أختي العزيزة .. أريدك أن تضبطين الشيلة حيث أنني أشعر أنها غير مرتبة. ردت أختها: لا بالعكس تبدوا ممتازة .. هيا سنتأخر ..

شعرت بألم الحرمان يتعاظم، وكأن لسان حال أختها يقول: وما يهمك أنت، فالكل يعرف أنك عمياء ولن يهتم إن كانت شيلتك مضبوطة أم لا .. شعرت بألم الاحتياج إلى شخص أخر ، بالعجز عن أبسط حق وهو رؤية نفسها في المرآة .. أخفت أحزانها وتبعت أختها وهي تقودها إلى السيارة ..

قامت أحلام أخت ريم بتشغيل المسجل عند دخولها السيارة، تضايقت ريم، فقد أرادت أن تسمع أصوات السيارات و ضوضاء المدينة ، هذا الصوت الذي كانت تنزعج منه سابقاً أصبح النافذة الوحيدة التي تستطيع من خلالها تخيل ما يمكن أن يكون المنظر من حولها، أصبحت أذناها تقوم مقام عيناها.

سمعت صوت مكابح السيارة تقف بسرعة، أحلام وسرعتها الجنونية، دائماً تحذرها من الوقوع في حادث لا سمح الله، عادت إلى سنة مضت وكيف كانت مثل أحلام، تسابق البرق في قيادتها، تندم على كل منظر جميل مرت عليه ولم تقف لتتأمله، فها هي الآن تتوق نفسها إلى رؤية اللون الأخضر، أو الصحراء أو أي منظر أخر ..

أفاقت وصوت أحلام يهزها: ريم هيا أمسكي بيدي .. لا نريد أن نتأخر

دخلوا إلى قاعة العرس، شعرت بحرارة في المكان وصوت الموسيقى الراقصة يهز أرجاء القاعة، تمسك أحلام يدها بقوة، تشعر بها تمشي بتبختر وكأنها تتعمد جذب الانتباه، تسلم على خالة سلمى وخالة شيخة .. ومن ثم على خالة مريم وخالة فاطمة ، كلهن يؤكدن على قمة جمال أحلام و من ثم ينهين حديثهن بمدح ثوب ريم وكأنهن يقلن بطريقة أخرى: لا عليك تبدين جميلة وأنت عمياء!

تصر ريم أن تقابل الجميع بابتسامة ، تريد أن تقول لهم أنها راضية بقدرها وسعيدة به، ولكنها تتقطع ألماً كلما مرت إحدى النساء لتسألها: أتعرفينني؟ أنا أم فلانة .. كيف لا أعرفك ونبرة صوتك الرنانة تملأ أرجاء المكان ، لماذا يذكرنها بقصورها، لماذا تقول نبرة صوتهم: مسكييييييينة .. كم تكره هذه الكلمة وكم تطعنها نبرة الصوت تلك!

تقودها ريم إلى طاولة بجانب سماعات المسجل، كم هي المرات عديدة تلك التي ترجت ريم أختها أن تبعدها عن المسجل ، ريم لا تبالي ، فصديقات العمر جالسات على تلك الطاولة ، هن الأهم . حاولت ريم أن تبلع غيضها وألمها وأن تشارك أحدهم الحديث، ولكن تشعر وأن الجميع يعطونها ظهورهن ، لا تراهن ولكنها تعلم أن هذا ما يحدث عادة ، حاولت أن تلهي نفسها بسماع الأغاني، ولكنها سخيفة لا معنى لها .. أه ونص ، ومعجبة مغرمة (طب ما تحبي وأنا مالي؟؟ ) ، تمنت لو عادت إلى غرفتها و استمعت إلى أشعار حامد زيد أو أسير الشوق ، على الأقل تعيشها تلك الأشعار رومانسية تحلم بها.

ولكنها تذكرت، لا لن أترك الابتسامة، لست هنا للتمتع بصرخات المغنيات و دق الطبول، هي هنا لتبتسم، لتقول للجميع أنها بخير وأنها لن تدفن وجهها في التراب حتى وإن كان حضورها يعتبر دفن لنفسها السعيدة.

شعرت بيد حانية تربت على كتفها الأيمن، عادة تمقت الأيادي الحانية فهي تحمل بين طياتها شفقة وأسى لا تحبهما، لكن كان لهذه اليد معنى أخر ، كانت تقول أنا أفهم و أنا أقدر مقدار الألم الذي تمرين به ، وجهت رأسها تجاه اليد .. إبتسمت وسألت : من؟ رد عليها صوت أحن: أنا شمس ، قريبة والدتك .. تذكر شمس عندما كانت صغيرة وقبل الحادث بأعوام عديدة، تصغرها بثلاثة أعوام ، كانت طفلة تملأ المكان حياة كلما دخلت ، تذكرها بتفاصبل وجهها الجميلة ، ردت ريم: أذكر شمس الصغيرة ما شاء الله كبرت

شمس: أوه نعم كبرت .. وصرت "حرمة" .. ضحكتا ضحكة صافية ولأول مرة منذ دخلت القاعة شعرت أنها تقضي وقتاً ممتعاً ، ولكنها فجأة تذكرت .. وعرفت لماذا تحنو عليها شمس ، لماذا كلمتها شمس ، لدى شمس أخت تعاني من متلازمة داون، أخت معاقة ، تشعر شمس أن يد حنية تعني الكثير لمن يحتاجها، تضايقت ريم، لاتريد يد تحنو عن شفقة، لا تريد يد تحنو لتقول أعلم مدى تعاستك ، تريد يداً تقول لها مرحباً بك كإنسانة. إستأذنت ريم بأدب وطلبت من أحلام أن تأخذها إلى طاولة أمها.

لم تجد كرسياُ بقرب أمها فأخبرتها أحلام أن هناك كرسي في نفس الطاولة فوافقت على الجلوس عليه، جلست ، بعد أن فقدت بصرها طورت حاسة سمعها وأصبحت تسمع ما يتهامس به الناس، سمعت المرأة التي بجانبها تهمس لجارتها: من هذه الجميلة الجالسة في طاولتنا؟ ، ردت جارتها: لا أعلم ولكنها تشبه آل راشد ، قد تكون منهم ، إبتسمت ريم وهي فخورة بسماتها التي تشبه أباها بشدة ، أكملت المرأة: رجاءً إسألي لي ، فإبني يبحث عن زوجة وإن كانت بهذا الجمال ومن آل راشد فنعم الزوجة ، صعقت ، لأول مرة تشعر أنها مثل البنات، لأول مرة تشعر أن هناك أمل ولو أنها على يقين أن المرأة إن علمت بعماها ستغير رأيها، ولكن الشعور بأنها مرغوبة ولو شكلياً أشعل فيها أملاً جديد أً ، أشعرها بأن للحياة نور!

قامت من مقعدها ، وبثقة توجهت للطاولة السابقة وحدها ، ووقفت تصفق مع البنات.